الرازي: الطبيب الإنسان والعالم والموسوعي
الرازي والقراءة
ولد أبو بكر الرازي في الري نحو سنة 250هـ = 864م، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم؛ فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولكنه حصل خلاف بين الدارسين والباحثين حول دراسته للطب وممارسته له، فتذكر المصادر القديمة كوفيات الأعيان وفوات الوفيات وغيرهما، أنه اتجه إلى ممارسة الطب بعد سن الأربعين، بينما يرى أحد الباحثين المحدثين، وهو ألبير زكي، أن الرازي بدأ اشتغاله بالطب في حداثته.
والمهم أن الرازي كان حريصًا على القراءة، مواظبًا عليها خاصة في المساء، فكان يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، وينام في فراشه على ظهره ممسكًا بالكتاب، حتى إذا ما غلبه النعاس وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه فأيقظه ليواصل القراءة من جديد.
ولعل الفقرة المقتطفة من كتاب سيرة الفيلسوف تسلّط الضوء على كثرة مطالعاته، حيث يقول: "حتى إني متى اتفق لي كتاب لم أقرأه أو رجل لم ألقه، لم ألتفت إلى شغل البتة، ولو كان في ذلك عليَّ ضرر عظيم دون أن آتي على الكتاب، أو أعرف ما عند الرجل، وأنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة".
بعد إتمام دراساته الطبية في بغداد، عاد الرازي إلى مدينة الريّ بدعوة من حاكمها، منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة بيمارستان الري. وقد ألّف الرازي لهذا الحاكم كتابه "المنصوري في الطب"، ثم "الطبّ الروحاني"، وكلاهما متمّم للآخر، وخصّ الأول بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس. وفيها نال الرازي شهرته، ثم انتقل منها ثانية إلى بغداد ليتولى رئاسة البيمارستان المعتضدي الجديد، الذي أنشأه الخليفة المعتضد بالله (279- 289 م /892- 902 م). ويقول ابن أبي أصيبعة: "والذي صح عندي أن الرازي كان أقدم زماناً من عضد الدولة"، ولم يذكر ابن أبي أصيبعة البيمارستان المعتضدي إطلاقاً في مقاله المطوَّل في الرازي.
وتنقّل الرازي عدة مرات بين الري وبغداد تارة لأسباب سياسية وأخرى ليشغل مناصب مرموقة في كل من هذين البلدين، ولكنه أمضى الشطر الأخير من حياته في مدينة الري، وكان قد أصابه الماء الأزرق في عينيه، ثم فقد بصره وتوفي في مسقط رأسه، وتأرجحت الأقوال في سنة وفاته بين سنة 313هـ /925 م، وسنة 320 هـ/ 932 م.
كيميائي بارع:
كان الرازي من ابرع رجال الكيمياء والطب والفيزياء في الإسلام في العصور الوسطى. وقد ذكر ابن أبي "أصيبعة" في عيون الأنباء، أن الرازي قدم في كتاب "كيفية الإبصار" قلب نظرية الإبصار، وقد قال في هذا الكتاب: "لأول مرة في التاريخ بأن الإبصار لا يكون شعاعاً يخرج من العين إلى الجسم، بل على النقيض من ذلك، إن الشعاع أو الضوء يخرج عن الجسم المرئي، وقد نقض في هذا الكتاب نظرية إقليدوس في المناظر، ومن الجدير ذكره أن الرازي كان أقدم عهداً من ابن الهيثم وبما يتعلق بهذه النظرية بسبعة قرون.
ويثبت مؤرخو العصور الوسطى المؤلفات الآتية للرازي في الإبصار، وكلها في حكم المفقودة: "كتاب في فصل العين على سائر الحواس" "مقالة في المنفعة في أطراف الأجفان دائماً"، "مقالة في العلة التي من أجله تضيق النواظر في الضوء وتتسع في الظلمة"، "كتاب في شروط النظر"، ومقالة في "علاج العين بالحديد".
مخترع في الفيزياء:
اخترع الرازي المكثاف الذي يستعمل لقياس الأوزان النوعية للسوائل ومعرفة كثافتها، وقد سماه الرازي "الميزان الطبيعي". بدأ حب الكيمياء عند الرازي قبل الطب بدافع السعي وراء تحويل المعادن الرديئة القليلة الثمن إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة.
كانت صنعة الكيمياء في عصره مجلبةً للثراء، لذلك ألف فيها عشرات الكتب.
توصل الرازي إلى تحضير بعض السبائك التي تشبه الذهب، وكذلك توصل إلى عمليات كيمائية ما زالت مستعملة حتى يومنا هذا، مثل: التقطير، التكليس، التبلور، التشميع، الصهر، الترشيح، التنقية، التصعيد، التصدية.
نال كتابه الكيماوي "سر الأسرار" شهرةً عظيمةً في أوروبا، فترجم إلى الألمانية، ولذلك اعتبر الرازي فريد عصره وزمانه. ويتضح من ذكر الرازي للأجهزة التي استخدمها في المواد ا لكيماوية مدى جودة مختبره، وقد ذكر من أدواته: "الأدوات الزجاجية، المعدنية، والخزفية، والكؤوس الزجاجية والدوارق وأواني البلور الزجاجية الأحواض، والأفران وملاعق الحرق والملاقط، والحمام المائي والحمام الرملي، وعمليات الترشيح، والأقماع الزجاجية، ومصابيح التسخين، وتوصل إلى معرفة معدن الصدا والكاوية والغلسرين وغيرها".
ولعلَّ ممارسة الرازي العملية للكيمياء كانت في المرحلة الأولى من عمره، كما ذكرت المصادر القديمة، وتأليفه في مجالها كان في المرحلة الثانية، وفي سن متقدمة نسبياً.
اختلفت الأقوال في إصابته بعينه، حيث يرد في تاريخ حكماء الإسلام أنه أصيب بالرمد لاشتغاله بالموادّ الكيماوية، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عينه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، بينما يعتقد البيروني، وهو الراجح، أنه نجم عن كثرة القراءة والمطالعة والدرس، ويؤكد الرازي ذلك بقوله: "وبقيت في عمل الجامع الكبير خمس عشرة سنة، أعمل في الليل والنهار، حتى ضعف بصري، وحدث لي فسخ في عضل يدي، يمنعاني في وقتي هذا من القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي، وأستعين دائماً بمن يقرأ ويكتب لي".
ويبدو لنا أن الرازي كان مطّلعاً على اللغة اليونانية، بعكس ما ذكر في هوامش تحقيق رسالة في الجدري والحصبة. والنص التالي المنقول عن عيون الأنباء يدل على معرفة الرازي باللغة اليونانية:" وقال أبو بكر ابن زكريا في كتاب الحاوي: يصح في اللغة اليونانية أن ينطق بالجيم غيناً وكافاً، فيقال مثلاً جالينوس وغالينوس وكالينوس، وكل ذلك جائز، وقد نجعل الألف واللام لاماً شديدة فيكون ذلك أصحّ في اليونانية... ويدلنا هذا النص على أن الرازي عرف اللغة اليونانية، كما يؤكد هذه المقولة ما نراه من سعة اطلاعه على الكتب اليونانية، سواء الطبية أو الفلسفيّة ونقله عنها، ويؤيده ما ورد في الفهرست وتاريخ الحكماء من أنه ألف كتاباً يذكر فيه كتب جالينوس التي لم ترد في فهارسه: "كتاب في استدراك ما بقي من كتب جالينوس ممّالم يذكره حنين ولا جالينوس في فهرسته".
وفي المحصلة، يمكننا القول إن "أبا بكر محمد بن زكريا الرازي" كان عالماً موسوعياً من طراز فريد، وقد برز في جميع فروع العلوم؛ فكتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الأخلاق والميتافيزيقا والموسيقى وغيرها، وهو في الحقيقة علاّمة عصره؛ حيث كانت مؤلّفاته العديدة مرجعاً للعلماء والدارسين خاصةً في الطب، وظلت تلك المؤلفات تدرَّس في جامعات أوروبا على مدى قرون طويلة، ولذا أجمع المؤرّخون على أن الرازي كان من أشهر الأطباء ولقب بـ"جالينوس العرب"، ونعته الزركلي بأنه من الأئمة في صناعة الطب.
الرازي والقراءة
ولد أبو بكر الرازي في الري نحو سنة 250هـ = 864م، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم؛ فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولكنه حصل خلاف بين الدارسين والباحثين حول دراسته للطب وممارسته له، فتذكر المصادر القديمة كوفيات الأعيان وفوات الوفيات وغيرهما، أنه اتجه إلى ممارسة الطب بعد سن الأربعين، بينما يرى أحد الباحثين المحدثين، وهو ألبير زكي، أن الرازي بدأ اشتغاله بالطب في حداثته.
والمهم أن الرازي كان حريصًا على القراءة، مواظبًا عليها خاصة في المساء، فكان يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، وينام في فراشه على ظهره ممسكًا بالكتاب، حتى إذا ما غلبه النعاس وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه فأيقظه ليواصل القراءة من جديد.
ولعل الفقرة المقتطفة من كتاب سيرة الفيلسوف تسلّط الضوء على كثرة مطالعاته، حيث يقول: "حتى إني متى اتفق لي كتاب لم أقرأه أو رجل لم ألقه، لم ألتفت إلى شغل البتة، ولو كان في ذلك عليَّ ضرر عظيم دون أن آتي على الكتاب، أو أعرف ما عند الرجل، وأنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة".
بعد إتمام دراساته الطبية في بغداد، عاد الرازي إلى مدينة الريّ بدعوة من حاكمها، منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة بيمارستان الري. وقد ألّف الرازي لهذا الحاكم كتابه "المنصوري في الطب"، ثم "الطبّ الروحاني"، وكلاهما متمّم للآخر، وخصّ الأول بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس. وفيها نال الرازي شهرته، ثم انتقل منها ثانية إلى بغداد ليتولى رئاسة البيمارستان المعتضدي الجديد، الذي أنشأه الخليفة المعتضد بالله (279- 289 م /892- 902 م). ويقول ابن أبي أصيبعة: "والذي صح عندي أن الرازي كان أقدم زماناً من عضد الدولة"، ولم يذكر ابن أبي أصيبعة البيمارستان المعتضدي إطلاقاً في مقاله المطوَّل في الرازي.
وتنقّل الرازي عدة مرات بين الري وبغداد تارة لأسباب سياسية وأخرى ليشغل مناصب مرموقة في كل من هذين البلدين، ولكنه أمضى الشطر الأخير من حياته في مدينة الري، وكان قد أصابه الماء الأزرق في عينيه، ثم فقد بصره وتوفي في مسقط رأسه، وتأرجحت الأقوال في سنة وفاته بين سنة 313هـ /925 م، وسنة 320 هـ/ 932 م.
كيميائي بارع:
كان الرازي من ابرع رجال الكيمياء والطب والفيزياء في الإسلام في العصور الوسطى. وقد ذكر ابن أبي "أصيبعة" في عيون الأنباء، أن الرازي قدم في كتاب "كيفية الإبصار" قلب نظرية الإبصار، وقد قال في هذا الكتاب: "لأول مرة في التاريخ بأن الإبصار لا يكون شعاعاً يخرج من العين إلى الجسم، بل على النقيض من ذلك، إن الشعاع أو الضوء يخرج عن الجسم المرئي، وقد نقض في هذا الكتاب نظرية إقليدوس في المناظر، ومن الجدير ذكره أن الرازي كان أقدم عهداً من ابن الهيثم وبما يتعلق بهذه النظرية بسبعة قرون.
ويثبت مؤرخو العصور الوسطى المؤلفات الآتية للرازي في الإبصار، وكلها في حكم المفقودة: "كتاب في فصل العين على سائر الحواس" "مقالة في المنفعة في أطراف الأجفان دائماً"، "مقالة في العلة التي من أجله تضيق النواظر في الضوء وتتسع في الظلمة"، "كتاب في شروط النظر"، ومقالة في "علاج العين بالحديد".
مخترع في الفيزياء:
اخترع الرازي المكثاف الذي يستعمل لقياس الأوزان النوعية للسوائل ومعرفة كثافتها، وقد سماه الرازي "الميزان الطبيعي". بدأ حب الكيمياء عند الرازي قبل الطب بدافع السعي وراء تحويل المعادن الرديئة القليلة الثمن إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة.
كانت صنعة الكيمياء في عصره مجلبةً للثراء، لذلك ألف فيها عشرات الكتب.
توصل الرازي إلى تحضير بعض السبائك التي تشبه الذهب، وكذلك توصل إلى عمليات كيمائية ما زالت مستعملة حتى يومنا هذا، مثل: التقطير، التكليس، التبلور، التشميع، الصهر، الترشيح، التنقية، التصعيد، التصدية.
نال كتابه الكيماوي "سر الأسرار" شهرةً عظيمةً في أوروبا، فترجم إلى الألمانية، ولذلك اعتبر الرازي فريد عصره وزمانه. ويتضح من ذكر الرازي للأجهزة التي استخدمها في المواد ا لكيماوية مدى جودة مختبره، وقد ذكر من أدواته: "الأدوات الزجاجية، المعدنية، والخزفية، والكؤوس الزجاجية والدوارق وأواني البلور الزجاجية الأحواض، والأفران وملاعق الحرق والملاقط، والحمام المائي والحمام الرملي، وعمليات الترشيح، والأقماع الزجاجية، ومصابيح التسخين، وتوصل إلى معرفة معدن الصدا والكاوية والغلسرين وغيرها".
ولعلَّ ممارسة الرازي العملية للكيمياء كانت في المرحلة الأولى من عمره، كما ذكرت المصادر القديمة، وتأليفه في مجالها كان في المرحلة الثانية، وفي سن متقدمة نسبياً.
اختلفت الأقوال في إصابته بعينه، حيث يرد في تاريخ حكماء الإسلام أنه أصيب بالرمد لاشتغاله بالموادّ الكيماوية، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عينه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، بينما يعتقد البيروني، وهو الراجح، أنه نجم عن كثرة القراءة والمطالعة والدرس، ويؤكد الرازي ذلك بقوله: "وبقيت في عمل الجامع الكبير خمس عشرة سنة، أعمل في الليل والنهار، حتى ضعف بصري، وحدث لي فسخ في عضل يدي، يمنعاني في وقتي هذا من القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي، وأستعين دائماً بمن يقرأ ويكتب لي".
ويبدو لنا أن الرازي كان مطّلعاً على اللغة اليونانية، بعكس ما ذكر في هوامش تحقيق رسالة في الجدري والحصبة. والنص التالي المنقول عن عيون الأنباء يدل على معرفة الرازي باللغة اليونانية:" وقال أبو بكر ابن زكريا في كتاب الحاوي: يصح في اللغة اليونانية أن ينطق بالجيم غيناً وكافاً، فيقال مثلاً جالينوس وغالينوس وكالينوس، وكل ذلك جائز، وقد نجعل الألف واللام لاماً شديدة فيكون ذلك أصحّ في اليونانية... ويدلنا هذا النص على أن الرازي عرف اللغة اليونانية، كما يؤكد هذه المقولة ما نراه من سعة اطلاعه على الكتب اليونانية، سواء الطبية أو الفلسفيّة ونقله عنها، ويؤيده ما ورد في الفهرست وتاريخ الحكماء من أنه ألف كتاباً يذكر فيه كتب جالينوس التي لم ترد في فهارسه: "كتاب في استدراك ما بقي من كتب جالينوس ممّالم يذكره حنين ولا جالينوس في فهرسته".
وفي المحصلة، يمكننا القول إن "أبا بكر محمد بن زكريا الرازي" كان عالماً موسوعياً من طراز فريد، وقد برز في جميع فروع العلوم؛ فكتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الأخلاق والميتافيزيقا والموسيقى وغيرها، وهو في الحقيقة علاّمة عصره؛ حيث كانت مؤلّفاته العديدة مرجعاً للعلماء والدارسين خاصةً في الطب، وظلت تلك المؤلفات تدرَّس في جامعات أوروبا على مدى قرون طويلة، ولذا أجمع المؤرّخون على أن الرازي كان من أشهر الأطباء ولقب بـ"جالينوس العرب"، ونعته الزركلي بأنه من الأئمة في صناعة الطب.